بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد :
تابعنا على حساباتنا
لقد كان للشعر مكانة كبيرة عند العرب على مر الزمن ، وكان الشعراء دومًا مقربين من بلاط الأمراء والملوك ، وكثيرًا ما كانت أشعارهم تعبر عن تجارب ذاتية أو معاصرة ، وهذا البيت اشتهر به الشاعر : عمرو بن معدي كرب بن ربيعة الزبيدي ، الذي عاش في الفترة بين عامي 525 - 642م..
يقول الشاعر في أبيات له :
أَلا غَدَرَت بنو أعلى قديماً *** وأَنعُمُ إِنّها وُدُقُ المَزَادِ
ومَن يشرب بماء العَبل يَغدِر *** على ما كان من حُمّى وِرادِ
وكنتم أَعبُداً أولادَ غَيلٍ *** بني آمٍ مَرَنَّ على السِّفادِ
لقد أَسمعتَ لوناديتَ حيّاً *** ولكن لا حياةَ لمن تُنادي
ولو نارٌ نفحتَ بها أضاءت *** ولكن أنتَ تنفُخُ في رَمَادِ
وهذه الأبيات تقال فيمن لا فائدة فيه ولا رجاء يرجى منه ، ومهما حاولت نصحه لا يستجيب..
# قصة الأبيات :
كان بالمدينة رجل كثير المال ليس هناك من هو أغنى منه ، وكان له ولد وحيد ماتت عنه أمه وهو صغير ، فأغدق عليه والده المال والدلال حتى أفسده ذلك ، وكان الأب رجل كريم كثير الصدقة والعطاء ، وكان كل صباح يأتي إليه رجل فقير بالسوق فيعطيه كسرات من خبز يفطر بها ، فيجلس إلى جواره حتى يأكل وبعدها ينصرف ، وظل الأمر على هذا الحال لسنوات ، حتى اشتد المرض على الأب وخاف أن يبدد الابن كل ما ترك ، فحاول نصحه ولكن دون جدوى ، فقد كان رفقاء السوء يحيطون به من كل صوب ، يصمون أذنيه ويعمون عينيه ، لأنهم منتفعين مما هو فيه من بذخ ومال دون حساب ، ولما اقترب الأجل استدعى الأب أخلص خدمه ، وأمرهم أن يبنوا سقفًا جديدًا لمجلس القصر تحت السقف القديم ، ويصنعوا ما بين السقفين مخزن يضعون به كمية كبيرة من الذهب ، وأمرهم أن يصنعوا في السقف بوابة ويضعون بها سلسلة حديدية ، إذا تم سحبها للأسفل تنفتح باتجاه الأرض ، وفعلًا فعل الخدم كل ما أراد الأب ، وأبقوا الأمر سرًا عن الابن ، وقبل الرحيل استدعى الأب ولده مرة أخيرة ، وأعاد له النصح والوعظ ولكن دون جدوى..
لقد أَسمعتَ لوناديتَ حيّاً *** ولكن لا حياةَ لمن تُنادي
ولو نارٌ نفحتَ بها أضاءت *** ولكن أنتَ تنفُخُ في رَمَادِ
قيل ذكرها المسكين للأب الذي كان يتصدق عليه بعد أن رأى حاله مع ولده..
ثم قال الأب لولده : بني إذا متُ وضاع منك كل شيء ، وغُلقت الأبواب في وجهك فعدني ألا تبيع هذا القصر تحت أي ظرف من الظروف ، وإن فكرت يومًا في الانتحار ففي المجلس الكبير سلسلة معلقة اشنق بها نفسك ومت في قصرك ميتة سهلة مستورة ، وعده ولكن لم يأخذ الابن كلام أبيه على محمل الجد..
مات الأب ، وظل رفقاء السوء ينفقون من ماله حتى أفنوه ، فكسدت التجارة وبيعت المحلات ، ثم البساتين والقصور ، ولم يبق له سوى قصر أبيه الذي وعده بعدم بيعه ، فباع الأثاث واحدًا تلو الآخر ، وانفض الرفاق من حوله ، وكرهوا صحبته حتى أنه كلما ذهب إلى أحدهم أنكر وجوده ورفض لقاءه ، ساءت أحوال الشاب ولم يعد عنده ما يقتات به ، حتى ملابسه تمزقت ونعله لم يعد يقوى على المسير ، كل الذي كان يجده كسرات من الخبز وبعضًا من الماء يحضرها له المسكين الذي كان يعطف عليه أبوه في حياته..
ومرت الأيام وأُغلقت في وجهه كل الطرق وضاقت به الأرض بما رحبت ، فقرر أن يضع حدًا لمأساته وينتحر ، وهنا تذكر كلام أبيه وتلك السلسلة المتدلية من سقف مجلس القصر ، فأحضر صندوقًا ووقف عليه وربط السلسلة حول عنقه ، وبعدها أزاح الصندوق بقدميه كي يسقط مشنوقا ويموت ميتة سهلة يرتاح فيها من الدنيا وكدرها..
ولكنه لم يمت ، لقد فتحت البوابة السرية التي بين السقفين حينما انجذبت السلسلة لأسفل ، وسقطت كميات الذهب الكبيرة على رأس الفتى حتى أغرقت المجلس ، ووجد بين الذهب قطعة صغيرة من خشب مكتوب عليها (بُنَيّ لقد أنفقت نصف ثروتي لتعليمك وأبقيت لك النصف الآخر تأخذه بعد أن تعلمت) ، حزن الابن حزناً شديداً على أبيه وهو يتذكر نصائحه التي لم يعرها اهتماماً قبل موته..
ولكنه فرح فيما بعد فرحًا شديدًا لأن الله فرج كربه ، وذهب إلى السوق واشترى حلو الطعام واللباس ، وجاء بالرجل الفقير وجعله رفيقًا له يقتسم معه الطعام والهندام ، وبدأ في التجارة واسترد أموال أبيه وبساتينه وخدمه..
ولما سمع رفاق السوء بتبدل حاله وما صار فيه من عز وغنى ، أرادوا الوصل والود القديم ، فأعدوا له مأدبة فاخرة ودعوه إليها ، فلبى دعواهم ودخل ولكنه لم يأكل من الطعام ، وكل ما فعله أن أمسك كُم ثوبه الفاخر وأخذ يضعه في كل صنف من الطعام ، وبعدها أراد الانصراف ، فاستغرب الرفاق عجيب صنعه ، وسألوه ماذا تصنع..؟!!
فقال لهم : أنتم ما دعوتموني أنا ، أنتم دعوتم أموالي وملابسي وهذا ثوبي قد لبى دعواكم أما أنا فلا ، وانصرف عنهم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق